قصة نيلسون مانديلا والمفرج عنه: حين هزم التسامح عقلية الثأر وبنى أمة

في صفحات مذكراته التي سجلت تفاصيل نضاله وتجربته الطويلة مع السجن والتحرر، يروي نيلسون مانديلا حادثة صغيرة لكنها محورية تكشف الكثير عن فلسفته القيادية. يصف كيف، بعد أن أصبح رئيسًا، طلب من بعض أفراد حمايته أن يتجوّلوا معه سيرًا على الأقدام داخل المدينة. دخلوا مطعمًا وجلسوا كأيّ زبائن آخرين، وطلب كلّ منهم طعامه. أثناء الانتظار لاحظ مانديلا رجلاً يجلس قبالته، فطلب من أحد حراسه أن يدعوه ويشاركهم المائدة.

جلس الرجل إلى جانب مانديلا وبدأ في تناول طعامه لكنه كان يرتجف من الخوف ولا يقوى إلا على أكل القليل. بعد أن فرغ الجميع، تبعه أحد الحراس وقال له إن الرجل يبدو مريضًا ويرتجف، فأجابه مانديلا بمفاجأة أخلاقية: ذلك الرجل كان في السابق حارس السجن الانفرادي الذي كان يُكبَد فيه، وكان قد اعتاد تعذيب مانديلا — حتى أن الرجل كان يبول عليه بعد طلب الماء — وكان يرتعد الرجل خوفًا من أن يردّ مانديلا بالمثل. لكن مانديلا رفض فكرة الثأر: «عقلية الثأر لا تبني دولة، في حين عقلية التسامح تبني أمم».

🔹 درس أخلاقي وقيادي

هذه الحكاية لا تتوقف عند حدود الإنسانية فحسب؛ بل تتحول إلى مدرسة في القيادة السياسية. التسامح الذي مارسه مانديلا كان أداة عملية لإرساء مصالحة وطنية بعد سنوات من الصراع والتمييز. بدلاً من الانغماس في الانتقام، اختار أن يكسر دائرة العنف بالمواجهة الرحيمة، وبذلك صنع أرضية لبناء مؤسسات دولة موثوقة ومجتمع قادر على التعايش.

🔹 استراتيجية بناء الدولة عبر الرحمة

التسامح هنا لا يعني النسيان أو الإفلات من المسؤولية؛ بل هو قرار استراتيجي يضع مصلحة الأمة فوق الانتقام الشخصي. بتوجيهه هذا السلوك، رسّخ مانديلا فكرة أن الانتقال من عصر الظلم إلى عصر المواطنة يتطلب أكثر من تغيير سياسي—يتطلب تغيّرًا في العقليات والسلوكيات اليومية بين الناس.

🔹 منطق المصالحة في سياقات معاصرة

قصة مانديلا تهمّ أي مجتمع يخرج من صراع داخلي، حيث يكون الخيار بين الإصرار على القصاص أو فتح نافذة للمصالحة. تطبيق منطق التسامح لا يسهّل فقط الانتقال السياسي بل يخفف من احتمالات الانتكاس إلى دوائر العنف، ويشجع على بناء مؤسسات عادلة تستند إلى الثقة المتبادلة.

🔮 

تحليل صابرينا نيوز:

قصة مانديلا مع ذلك الحارس هي مرآة لكلّ مجتمع في لحظة اتخاذ القرار: هل ننتصر على خصمنا بمكره وغلّه، أم ننتصر على الماضي باستراتيجية شجاعة تُسمّى التسامح؟

الاختيار ليس ضعفًا، بل هو فلسفة دولة — دولة تُعطي الأولوية للغد على حساب غضب اليوم.

حين نقبل أن نُطعم من أذى من آذانا، لا نُظهر رحمًا فحسب، بل نُعلّم شعبنا كيف يبني وطنًا لا تُعاد فيه حلقات الانتقام.

وفي زمننا الذي تكثُر فيه أصوات الفتنة والانتقام، تبقى هذه الحكاية دعوة: ابنِ بالأخلاق قبل أن تبني بالحصص، وابنِ بالمصالحة قبل أن تُعادك الحرب.

شارك
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x